فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

سورة الضحى:
{والضحى (1)}
تقدم معنى الضحى في السورة المتقدمة.
وقيل: المراد به هنا النهار كله، كما في قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 97- 98]، وقوله: {والليل إِذَا سجى} قيل: أقبل، وقيل: شدة ظلامه، وقيل: غطى، وقيل: سكن.
واختار الشيخ رحمه الله علينا وعليه إملائه معنى: سكن.
واختار ابن جرير أنه سكن بأهله، وثبت بظلامه، قال كما يقال بحر ساج، إذا كان ساكناً، ومنه قول الأعشى:
فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم ** وبحرك ساج ما يواري الدعامصا

وقول الراجز:
يا حبذا القمراء والليل الساج ** وطرق مثل ملاء النساج

وأنشدهما القرطبي، وذكر قول جرير:
ولقد رميتك يوم رحن بأعين ** ينظرن من خلل الستور سواج

أقسم تعالى بـ: {الضحى والليل} هنا فقط لمناسبتها للمقسم عليه، لأنهما طرفا الزمن وظرف الحركة والسكون، فإنه يقول له مؤانساً: {ما ودعك ربك وما قلى}، لا في ليل ولا في نهار، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
وقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى}، قرئ بالتشديد من توديع المفارق. وقرئ: {ما ودعك}، بالتخفيف من الودع، أي من الترك، كما قال أبو الأسود:
ليت شعري عن خليل ما الذي ** نما له في الحب حتى ودعه

أي تركوهم فرائس السيوف.
قال أبو حيان: والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقاً، فقد بالغ في تركك. اه.
والقراءة الأولى أشهر وأولى، لأن استعمال ودع بمعنى ترك قليل.
قال القرطبي: وقال المبرد: لا يكادون يقولون: ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك، وبدل على قول المبرد سقوط الواو في المضارع، فتقول في مضارع: ودع يدع كيزن ويهب ويرث، من المضارع: يذرهم، والأمر: ذرهم. فترجحت قراءة الجمهور بالتشديد من {ودعك} من التوديع.
وقد ذكرنا هذا الترجيح، لأن ودع بمعنى فيها شدة وشبه جفوة وقطيعة، وهذا لا يليق بمقام المصطفى صلى الله عليه وسلم عند ربه. أما الموادعة والوداع، فقد يكون مع المودة والصلة، كما يكون بين المحبين عند الافتراق، فهو وإن وادعه بجسمه فإنه لم يوادعه بحبه وعطفه، والسؤال عنه وهو ما يتناسب مع قوله تعالى: {وَمَا قلى}.
تنبيه:
هنا ما ودعك بصيغة الماضي، وهو كذلك للمستقبل، بدليل الواقع وبدليل {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4]، لأنها تدل على مواصلة عناية الله به حتى يصل إلى الآخرة فيجدها خيراً له من الأولى، فيكون ما بين ذلك كله في عناية ورعاية ربه.
وقد جاء في صلح الحديبية، قال لعمر: أنا عبد الله ورسوله، أي تحت رحمته وفي رعايته.
وقوله: {وما قلى}، حذف كاف الخطاب لثبوتها فيما معها، فدلت عليها هكذا قال المفسرون.
وقال بعضهم: تركت لرأس الآية، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود، فأبرزت فيها كاف الخطاب، أي لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب، والمصطفى المقرب.
أما {قلى}: ففيها معنى البغض، فلم يناسب إبرازها في إبعاد قصده صلى الله عليه وسلم بشيء من هذا المعنى، كما تقول لعزيز عليك: لقد أكرمتك، وما أهنت لقد قربتك، وما أبعدت كراهية أن تنطق بإهانته وكراهيته، أو تصرح بها في حقه، والقلى: يمد ويقصر هو البغض، يمد إذا فتحت القاف، ويقصر إذا كسرتها، وهو واوي وياءي، وذكر القرطبي، قال: انشد ثعلب:
أيام أم الغمر لا نقلاها ** ولو تشاء قبلت عَيناها

وقال في كثير عزة:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ** لدينا ولا مقلية إن تقلت

فالأول قال: فقلاها من الواوي، والثاني قال: مقلية من الياء، وهما في اللسان شواهد:
وقد جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ويثبت دوام موالاته سبحانه لحبيبه وعنايته به وحفظه له بما كان بكاؤه به عمه، وقد قال عمه في ذلك:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا

وذكر ابن هشام في رعاية عمه له، أنه كان إذا جنَّ الليل وأرادوا أن يناموا، تركه مع أولاده ينامون، حتى إذا أخذ كل مضجعه، عمد عمه إلى واحد من أبنائه، فأقامه وأتى بمحمد صلى الله عليه وسلم ينام موضعه، وذهب بولده ينام مكان محمد صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان هناك من يريد به سوءاً فرأى مكانه في أول الليل، ثم جاء من يريده بسوء وقع السوء بابنه، وسلم محمد صلى الله عليه وسلم، كما فعل الصديق رضي الله عنه عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار، فكان رضي الله عنه تارة يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم، وتارة يمشي وراءه، فسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «أذكر الرصيد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك، فقال: أتريد لو كان سوء يكون بك يا أبا بكر؟ قال: بلى، فداك أبي وأمي يا رسول الله، ثم قال: إن أهلك أهلك وحدي، وإن تهلك تهلك معك الدعوة» فذاك عمه في جاهلية وليس على دينه صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى (4)}
خير تأتي مصدراً كقوله: إن ترك خيراً أي مالاً كثيراً، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة، وهي هنا أفعل تفضيل بدليل ذكر المقابل، وذكر حرف من، مما يدل على أنه سبحانه أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة، ولكن ما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا، ويوهم أن الآخرة خير له صلى الله عليه وسلم وحده من الأولى، ولكن جاء النص على أنها خير للأبرار جميعاً، وهو قوله تعالى: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان الخيرية للأبرار عند الله، أي يوم القيامة بما أعد لهم، كما في قوله: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13]، وقوله: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 5].
أما بيان الخيرية هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيان الخير في الدنيا أولاً، ثم بيان الأفضل منه في الآخرة.
أما في الدنيا المدلول عليه بأفعل التفضيل، أي لدلالته على اشتراك الأمرين في الوصف، وزيادة أحدهما على الآخر، فقد أشار إليه في هذه السورة والتي بعدها، ففي هذه السورة قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى} [الضحى: 6]، أي منذ ولادته ونشأته، ولقد تعهده الله سبحانه من صغره فصانه عن دنس الشرك، وطهَّره وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها فقال: فتى لا يعادله فتى من قريش، حلماً وعقلاً وخلقاً، إلا رجح عليه.
وقوله: {وَوَجَدَكَ ضالا فهدى وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى} [7- 8].
على ما سيأتي بيانه كله، فهي نعم يعددها تعالى عليه، وهي من أعظم خيرات الدنيا من صغره إلى شبابه وكبره، ثم اصطفائه بالرسالة، ثم حفظه من الناس، ثم نصره على الأعداء، وإظهار دينه وإعلاء كلمته.
ومن الناحية المعنوية ما جاء في السورة بعدها: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الانشراح: 1- 4].
أما خيرية الآخرة على الأولى، فعلى حد قوله: {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5]، وليس بعد الرضى مطلب، وفي الجملة: فإن الأولى دار عمل وتكليف وجهاد، والآخرة دار جزاء وثواب وإكرام، فهي لا شك أفضل من الأولى.
{ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى (5)}
جاء مؤكداً باللام وسوف، وقال بعض العلماء: يعطيه في الدنيا من إتمام الدين وإعلاء كلمة الله، والنصر من الأعداء.
والجمهور: أنه في الآخرة، وهذا إن كان على سبيل الإجمال، إلا أنه فصل في بعض المواضع، فأعظمها ما أشار إليه قوله تعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإسراء: 79].
وجاء في السنة بيان المقام المحمود وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، كما في حديث الشفاعة العظمى حين يتخلى كل نبي، ويقول: نفسي نفسي، حتى يصلوا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها أنا لها» إلخ.
ومنها: الحوض المورود، وما خصت به أمته غراً محجلين، يردون عليه الحوض.
ومنها، الوسيلة، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد وحد، كما في الحديث: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلاَّ لعبد وحد، وأرجو أن أكون أنا هو».
وإذا كانت لعبد وحد فمن يستقدم عليها، وإذا رجا ربه أن تكون له طلب من الأمة طلبها له، فهو مما يؤكد أنها له، وإلاَّ لما طلبها ولا ترجاها، ولا أمر بطلبها له. وهو بلا شك أحق بها من جميع الخلق، إذ الخلق أفضلهم الرسل، وهو صلى الله عليه وسلم مقدم عليهم في الدنيا، كما في الإسراء تقدم عليهم في الصلاة في بيت المقدس.
ومنها: الشفاعة في دخول الجنة كما في الحديث: «أنه صلى الله عليه وسلم أول من تفتح له الجنة، وأن رضواناً خازن الجنة يقول له: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك».
ومنها: الشفاعة، المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار، كما في الحديث: «لا أرضى وأحد من أمتي في النار» أسأل الله أن يرزقنا شفاعته، ويوردنا حوضه. آمين.
وشفاعته الخاصة في الخاص في عمه أبي طالب، فيخفف عنه بها ما كان فيه.
ومنها: شهادته على الرسل، وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك، وهذه بلا شك عطايا من الله العزيز الحكيم لحبيبه وصفيه الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
تنبيه:
اللام في {وَلَلآخِرَةُ} وفي {ولسوف} للتأكيد وليست للقسم، وهي في الأول دخلت على المبتدأ، وفي الثانية المبتدأ محذوف تقديره، لأنت سوف يعطيك ربك فترضى.
قاله أبو حيان وأبو السعود.
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فآوى (6)}
تقدم بيان معنى اليتيم عند قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيتيماً وَأَسِيراً} [الإنسان: 8].
والرسول صلى الله عليه وسلم مات أبوه، وهو حمل له ستة أشهر، وماتت أمه وهي عائدة من المدينة بالأبواء وعمره صلى الله عليه وسلم.
وقد قيل: إن يتمه لأنه لا يكون لأحد حق عليه، نقله أبو حيان.
والذي يظهر أن يتمه راجع إلى قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ}، أي ليتولى الله تعالى أمره من صغره، وتقدم معنى إيواء الله له، فكان يتمه لإبراز فضله، لأن يتيم الأمس أصبح سيد الغد، وكافل اليتامى.
{وَوَجَدَكَ ضالا فهدى (7)}
الضلال: يكون حساً ومعنى، فالأول: كمن تاه في طريق يسلكه.
والثاني: كمن ترك الحق فلم يتبعه. فقال قوم: المراد هنا هو الأول، كأن ضل في شعب من شعاب مكة، أو في طريقه إلى الشام. ونحو ذلك.
وقال آخرون: إنما هو عبارة عن عدم التعليم أولاً ثم منحه من العلم مما لم يكن يعلم، كقوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بحث هذه المسألة في عدة مواضع: أولاً في سورة يوسف عند قوله تعالى: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8]، وساق شواهد الضلال لغة هناك.
وثانياً: في سورة الكهف عند قوله تعالى: {الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا} [الكهف: 104].
وثالثاً: في سورة الشعراء عند قوله تعالى: {قال فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20].
وفي دفع إيهام الاضطراب أيضاً: وهذا كله يغني عن أي بحث آخر.
ومن الطريف ما ذكره أبو حيان عند هذه الآية، حيث قال: ولقد رأيت في النوم، أني أفكر في هذه الجملة، فأقول على الفور: {ووجدك}: أي وجد رهطك ضالا فهداه بك، ثم أقول: على حذف مضاف، نحو: {واسأل القرية}. اه.
وقد أورد النيسابوري هذا وجهاً في الآية، وبهذه المناسبة أذكر منامين كنت رأيتهما ولم أرد ذكرهما حتى رأيت هذا لأبي حيان، فاستأنست به لذكرهما، وهما: الأول عندما وصلت إلى سورة ن عند قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ومن منهج الأضواء تفسير القرآن بالقرآن، وأبين حكمه وصفحه وصبره وكرمه وعطفه ورحمته ورأفته وجهاده وعبادته، وكل ذلك مما جعلني أقف حائراً وأمكث عن الكتابة عدة أيام، فرأيت الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في النوم، كأننا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكأنه ليس في نشاطه العادي، فسألته ماذا عندك اليوم؟
فقال: عندي تفسير.
فقلت: أتدرس اليوم؟ قال: لا، فقلت: وما هذا الذي بيدك؟ لدفتر في يده، فقال: مذكرة تفسير، أي التي كان سيفسرها وهي مخطوطة، فقلت له: من أين في القرآن؟ فقال: من أول ن إلى آخر القرآن، فحرصت على أخذها لأكتب منها، ولم أتجرأ على طلبها صراحة، ولكن قلت له: إذا كنت لم تدرس اليوم فأعطنيها أبيضها وأجلدها لك، وآتيك بها غداً، فأعطانيها فانتبهت فرحاً بذلك وبدأت في الكتابة.
والمرة الثانية في سورة المطففين، لما كتبت على معنى التطفيف، ثم فكرت في التوعد الشديد عليه ما يتأتى فيه من شيء طفيف، حتى فكرت في أن له صلة بالربا، إذا ما بيع جنس بجنسه، فحصلت مغايرة في الكيل ووقع تفاضل، ولكني لم أجد من قال به، فرأيت فيما يرى النائم، أني مع الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، ولكن لم يتحدث معي في شيء من التفسير.
وبعد أن راح عني، فإذا بشخص لا أعرفه يقول: وأنا أسمع دون أن يوجه الحديث إلى إن في التطفيف رباً، إذا بيع الحديد بحديد، وكلمة أخرى في معناها نسيتها بعد أن انتبهت.
وقد ذكرت ذلك تأسياً بأبي حيان، لما أجد فيه من إيناس، والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا سواء السبيل، وعلى ما جاء في الرؤيا من مبشرات. وبالله تعالى التوفيق.
{وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى (8)}
العائل: صاحب العيال، وقيل: العائل الفقير: على أنه من لازم العيال الحاجة، ولكن ليس بلازم، ومقابلة {عائلا} بـ: {أغنى}، تدل على أن معنى {عائلا} أي فقيراً، ولذا قال الشاعر:
فما يدري الفَقسر متى غناه ** ومَا يدري الغنى متى يعيل

وما تدري وإن ذمرت سقبا ** لغيرك أم يكون لك الفَصيل

وهذا مما يذكره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من تعداد النعم عليه، وأنه لم يودعه وما قلاه، لقد كان فقيراً من المال فأغناه الله بمال عمه.
وقد قال عمه في خطبة نكاحه بخديجة: وإن كان في المال قلّ فما أحببتم من الصداق، فعليّ، ثم أغناه الله بمال خديجة، حيث جعلت مالها تحت يده.
قال النيسابوري ما نصه: يروى «أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهو مغموم، فقالت: مالك؟ فقال: الزمان زمان قحط، فإن أنا بذلت المال ينفد مالك، فأستحي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله، فدعت قريشاً وفيهم الصديق، قال الصديق: فأخرجت دنانير حتى وضعتها، بلغت مباناً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي، ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله، إن شاء فرَّقه وإن شاء أمسكه».
فهذه القصة وإن لم يذكر سندها، فليس بغريب على خديجة رضي الله عنه أن تفعل ذلك له صلى الله عليه وسلم، وقد فعلت ما هو أعظم من ذلك، حيث دخلت معه الشعب فتركت مالها، واختارت مشاركته صلى الله عليه وسلم لما هو فيه من ضيق العيش، حتى أكلوا ورق الشجر، وأموالها طائلة في بيتها.
ثم كانت الهجرة وكانت مواساة الأنصار، لقد قدم المدينة تاركاً ماله ومال خديجة، حتى إن الصديق ليدفع ثمن المربد لبناء المسجد، وكان بعد ذلك فيء بني النضير، وكان يقضي الهلال ثم الهلال ثم الهلال، لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، إنما هما الأسودان: التمر والماء.
ثم جاءت غنائم حنين، فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر، ورجع بدون شيء، وجاء مال البحرين فأخذ العباس ما يطيق حمله، وأخيراً توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في آصع من شعير.
وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى}، يشير إلى هذا الموضع، لأن أغنى تعبير بالفعل، وهو يدل على التجدد والحدوث، فقد كان صلى الله عليه وسلم من حيث المال حالاً فحالاً، والواقع أن غناه صلى الله عليه وسلم كان قبل كل شيء، هو غنى النفس والاستغناء عن الناس، ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم أجود الناس.
وكان إذا لقيه جبريل ودارسه القرآن كالريح المرسلة، فكان صلى الله عليه وسلم القدوة في الحالتين، في حالي الفقر والغنى، إن ما قلَّ ماله صبر، وإن كثر بذل وشكر.
استغن ما أغناك ربك بالغنى ** وإذا تصبك خصاصة فتجمل

ومما يدل على عظم عطاء الله له مما فاق كل عطاء. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 87- 88].
وقد اختلفوا في المقارنة بين الفقير الصابر والغني الشاكر، ولكن الله تعالى قد جمع لرسوله صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين، ليرسم القدوة المثلى في الحالتين.
تنبيه:
في الآية إشارة إلى أن الإيواء والهدى والغنى من الله لإسنادها هنا لله تعالى.
ولكن في السياق لطيفة دقيقة، وهي معرض التقرير، يأتي بكاف الخطاب: {ألم يجدك يتيماً}، ألم يجدك {ضالا}، ألم يجدك {عائلا}، لتأكيد التقرير، لم يسند اليتيم ولا الإضلال ولا الفقر لله، مع أن كله من الله، فهو الذي أوقع عليه اليتيم، وهو سبحانه الذي منه كلما وجده عليه، ذلك لما فيه من إيلام له، فما يسنده لله ظاهراً، ولما فيه من التقرير عليه أبرز ضمير الخطاب.
وفي تعداد النعم: {فآوى}، {فهدى}، {فأغنى}. أسند كله إلى ضمير المنعم، ولم يبرز ضمير الخطاب.
قال المفسرون: لمراعاة رؤوس الآي والفواصل، ولكن الذي يظهر والله تعالى أعلم: أنه لما كان فيه امتنان، وأنها نعم مادية لم يبرز الضمير لئلا يثقل عليه المنة، بينما أبرزه في: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الانشراح: 1- 4]. لأنها نعم معنوية، انفرد بها صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
{فَأَمَّا اليتيم فَلَا تقهر (9)}
مجيء الفاء هنا مشعر، إما بتفريغ وهذا ضعيف، وإما بإفصاح عن تعدد، وقد ذكر الجمل بتقدير، مهما يكن من شيء.
وقد ساق تعالى هنا ثلاث مسائل: الأولى معاملة الأيتام فقال: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تقهر}، أي كما آواك والله فآوه، وكما أكرمك فأكرمه.
وقالوا: قهر اليتيم أخذ ماله وظلمه.
وقيل: قرء بالكاف {تكهر}، فقالوا: هو بمعنى القهر إلاَّ انه أشد.
وقيل: هو بمعنى عبوسة الوجه، والمعنى أعم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدَّيْن وقهر الرجال»، فالقهر أعم من ذلك.
وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم، والتي زادت على العشرين موضعاً، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أبواب كلها تدور حول دفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله وفي نفسه، فهذه أربعة، وفي الحالة الزوجية، وهي الخامسة. أما دفع المضار في ماله، ففي قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، جاءت مرتين في سورة الأنعام والأخرى في سورة الإسراء، وفي كل من السورتين ضمن الوصايا العشر المعروفة في سورة الأنعام، بدأت بقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً} [الأنعام: 151].
وذكر قتل الولد وقربان الفواحش وقتل النفس ثم مال اليتيم. {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}
ويلاحظ أن النهي منصب على مجرد الاقتراب من ماله إلاّ بالتي هي أحسن، وقد بين تعالى التي هي أحسن بقوله: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفف وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} [النساء: 6].
وقد نص الفقهاء على أن من ولي مال اليتيم واستحق أجراً، فله الأقل من أحد أمرين: إما نفقته في نفسه، وإما أجرته على عمله، أي إن كان العمل يستحق أجرة ألف ريال، ونفقته يكفي لها خمسمائة أخذ نفقته فقط، وإن كان العمل يكفيه أجرة مائة ريال، ونفقته خمسمائة أخذ أجرته مائة فقط، حفظاً لماله.
ثم بعد النهي عن اقتراب مال اليتيم ذلك، فقد تتطلع بعض النفوس إلى فوارق بسيطة من باب التحيل أو نحوه، من استبدال شيء مكان شيء، فيكون طريقاً، لاستبدال طيب بخبيث، فجاء قوله تعالى: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تتبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2].
والحوب: أعظم الذنب، ففيه النهي عن استبدال طيب ماله، بخبيث مال الولي أو غيره حسداً له على ماله، كما نهى عن خلط ماله مع مال غيره كوسيلة لأكله مع مال الغير، وهذا منع للتحيل وسد الذريعة، حفظاً لماله.
ثم يأتي الوعيد الشديد في صورة مفزعة في قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10].
وقد اتفق العلماء: أن الآية شملت في النهي عن أكل أموال اليتامى كل ما فيه إتلاف أو تفويت سواء كان بأكل حقيقة أو باختلاس أو بإحراق أو إغراق، وهو المعروف عند الأصوليين بالإلحاق بنفي الفراق، إذ لا فرق في ضياع مال اليتيم عليه، بين كونه بأكل أو إحراق بنار أو إغراق في ماء حتى الإهمال فيه، فهو تفويت عليه وكل ذك حفظاً لماله.
وأخيراً، فإذا تم الحفاظ على ماله لم يقربه إلا بالتي هي أحسن، ولم يبدله بغيره أقل منه، ولم يخلطه بماله ليأكله عليه، ولم يعتد عليه بأي اتلاف كان محفوظاً له، إلى أن يذهب يتمه ويثبت رشده، فيأتي قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} [النساء: 6].
ثم أحاط دفع المال إليه بموجبات الحفظ بقوله في آخر الآية: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 6]، أي حتى لا تكون مناكرة فيما بعد.
وفي الختام ينبه الله فيهم وازع مراقبة الله بقوله: {وكفى بالله حَسِيباً} [النساء: 6]، وفيه إشعار بأن أمواله تدفع إليه بعد محاسبة دقيقة فيما له وعليه.
ومهما يكن من دقة في الحساب، فالله سيحاسب عنه، وكفى بالله حسيباً، وهذا كله في حفظ ماله.
أما جلب المصالح، فإننا نجد فيها أولاً جله مع الوالدين، والأقربين، في عدة مواطن، منها قوله تعالى: {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى} [البقرة: 215].
ومنها قوله: إيراده في أنواع البر من الإيمان بالله وإنفاق المال {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين} [البقرة: 177]، إلى آخر الآية.
ومنها: هو ما أدخل في الموضوع حيث جعل له نصيباً في التركة في قوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ} [النساء: 8]، بصرف النظر عن مباحث الآية من جهات أخرى، ومرة أخرى يجعل لهم نصيباً فيما هو أعلى منزلة في قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله} [الأنفال: 41] الاية.
وكذلك في سورة الحشر في قوله تعالى: {مَّآ أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7].
فجعلهم الله مع ذي القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جعله الله في عموم وصف الأبرار، وسبباً للوصول إلى أعلى درجات النعيم في قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 5].
وذكر أفعالهم التي منها: أنهم يوفون بالنذر ثم بعدها: أنهم يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
وجعل أفعالهم التي منها: أنهم يوفون بالنذر، ثم بعدها: أنهم يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
وجعل هذا الإطعام اجتياز العقبة في قوله: {فَلاَ اقتحم العقبة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رقبة أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة يتيماً ذَا مقربة} [البلد: 11- 15] الآية.
ولقد وجدنا ما هو أعظم من ذلك، وهو أن يسوق الله الخضر وموسى عليهما السلام ليقيما جداراً ليتيمين على كنز لهما حتى يبلغا أشدهما، في قوله تعالى: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82].
هذا هو الجانب المالي من دفع المضرة عنه في حفظه ماله، ومن جانب جلب النفع إليه عن طريق المال.
أما الجانب النفسي فكالآتي:
أولاً: عدم مساءته في نفسه، فمنها قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} [الماعون: 1- 3].
ومنها قوله: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين} [الفجر: 17- 18]، فقدم إكرامه إشارة له.
ثانيا: في الإحسان إليه، منها قوله تعالى: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً وَذِي القربى واليتامى} [البقرة: 83]، فيحسن إليه كما يحسن لوالديه ولذي القربى.
ومنها سؤال، وجوابه من الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} [البقرة: 220]، أي تعاملونهم كما تعاملون الإخوان، وهذا أعلى درجات الإحسان والمعروف، ولذا قال تعالى: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح}.
وفي تقديم ذكر المفسد على المصلح: إشعار لشدة التحذير من الإفساد في معاملته، ولأنه محل التحذير في موطن آخر جعلهم بمنزلة الأولاد في قوله: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقولواْ قولاً سَدِيداً} [النساء: 9].
أي حتى في مخاطبتهم إياهم لأنهم بمنزلة أولادهم، بل ربما كان لهم أولاد فما بعد أيتاماً من بعدهم، فكما يخشون على أولادهم إذا صاروا أيتاماً من بعدهم، فليحسنوا معاملة الأيتام في أيديهم وهذه غاية درجات العناية والرعاية.
تلك هي نصوص القرآن في حسن معاملة اليتيم وعدم الإساءة إليه، مما يفصل مجمل قوله: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تقهر}.
لا بكلمة سديدة ولا بحرمانه من شيء يحتاجه، ولا بإتلاف ماله، ولا بالتحيل على أكله وإضاعته، ولا بشيء بالكلية، لا في نفسه ولا في ماله.
والأحاديث من السنة على ذلك عديدة بالغة مبلغها في حقه، وكان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس به وأشفقهم عليه، حتى قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين- يشير إلى السبابة والوسطى- وفرّج بينهما» رواه البخاري وأبو داود والترمذي.
وفي رواية أبي هريرة عند مسلم ومالك: «كافل اليتيم له أو لغيره» أي قريب له أو بعيد عنه.
وعن أحمد والطبراني مرفوعاً:
«من ضم يتيماً من بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه، وجبت له الجنة» قال المنذري: رواه أحمد، محتج بهم إلا علي بن زيد.
وعن بن ماجه عن أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم، يُحسن إليه. وشر بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يُساء إليه».
وجاء عند أبي داود ما هو أبعد من هذا وذلك، حتى إن الأم لتعطل مصالحها من أجل أيتامها، في قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا وامرأة سعفاء الخدين كهاتين يوم القيامة- وأومأ بيده- يزيد بن زربع- بفتح الزاي وإسكانم الباء- بالوسطى والسبابة امرأة آمت زوجها- بألف ممدودة وميم مفتوحة وتاء- أصبحت أيماً، بوفاة زوجها- ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا».
وجعله الله دواء لقساوة القلب، كما روى أحمد ورجاله الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، ان رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عيله وسلم قسوة قلبه فقال: «امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين».
وهنا يتجلى سر لطيف في مثالية التشريع الإسلامي، حيث يخاطب الله تعالى أفضل الخلق وأرحمهم، وأرأفهم بعباد الله، الموصوف بقوله تعالى: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]، وبقوله: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ليكون مثالاً مثالياً في أمة قست قلوبها وغلظت طباعها، فلا يرحمون ضعيفاً، ولا يؤدون حقاً إلى من قوة يدينون لمبدأ (من عزَّ بزّ، ومن غلب استلب) يفاخرون بالظلم ويتهاجون بالأمانة، كما قال شاعرهم:
قبيلة لا يخفرون بذمة ** ولا يظلمون الناس حبة خردل

ويقول حكيمهم:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ** يهدم ومن لم يظلم الناس يظلم

قوم يئدون بناتهم، ويحرمون من الميراث نساءهم، يأكلون التراث أكلاً لماً، ويحبون المال حباً جماً، فقلب مقاييسهم وعدل مفاهيمهم، فألان قلوبهم ورقق طباعهم، فلانوا مع هذا الضعيف وحفظوا حقه.
وحقيقة هذا التشريع الإلهي الحكيم منذ أربعة عشر قرناً تأتي فوق كل ما تتطلع إليه آمال الحضارات الإنسانية كلها، مما يحقق كمال التكامل الاجتماعي بأبهى معانيه، المنوه عنه في الآية الكريمة {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقولواْ قولاً سَدِيداً} [النساء: 9]، فجعل كافل اليتيم اليوم، إنما يعمل حتى فيما بعد لو ترك ذرية ضعافاً، وعبَّر هنا عن الأيتام بلازمهم وهو الضعف إبرازاً لحاجة اليتيم إلى الإحسان، بسبب ضعفه فيكونون موضع خوفهم عليهم لضعفهم، فليعاملوا الأيتام تحت أيديهم، كما يحبون أن يعامل غيرهم أيتامهم من بعدهم.
وهكذا تضع الآية أمامنا تكافلاً اجتماعياً في كفالة اليتيم، بل إن اليتيم نفسه، فإنه يتيم اليوم ورجل الغد، فكما تحسن إليه يحسن هو إلى أيتامك من بعدك، وكما تدين تدان، فإن كان خيراً كان الخير بالخير والبادئ أكرم، وإن شراً كان بمثله والبادئ أظلم.
ومع هذا الحق المتبادل، فإن الإسلام يحث عليه ويعني به، ورغَّب في الإحسان إليه وأجزل المثوبة عليه، وحذّر من الإساءة عليه، وشدد العقوبة فيه.
وقد يكون فيما أوردناه إطالة، ولكنه وفاءً بحق اليتيم أولاً، وتأثر بكثرة ما يلاقيه اليتيم ثانياً.
تنبيه:
ليس من باب الإساءة إلى اليتيم تأديبه والحزم معه، بل ذلك من مصلحته كما قيل:
قس ليزدجروا ومن يك حازماً ** فليقس أحياناً على من يرحم

وقوله: {وَأَمَّا السائل فَلاَ تنهر} [10]، قالوا: السائل الفقير والمحتاج، يسأل ما يسد حاجته وهو مقابل لقوله: {وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى} [الضحى: 8]، أي فكما اغناك الله وبدون سؤال، فإذا أتاك سائل فلا تنهره، ولو في رد الجواب بالتي هي أحسن.
ومعلوم: أن الجواب بلطف، قد يقوم مقام العطاء في إجاية السائل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد ما يعطيه للسائل يعده وعداً حسناً لحين مسيره، أخذاً من قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قولاً مَّيْسُوراً} [الإسراء: 28].
وقد أورد الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيتين عند هذه الآى في هذا المعنى، هما قول الشاعر:
إن لم تكن ورق يوماً أجود بها ** للسائلين فإني لين العود

لا يعدم السائلون الخير من خلقي ** إما نوالي وإما حسن مردود

فليسعد النطق إن لم يسعد المال.
وقيل: السائل المستفسر عن مسائل الدين والمسترشد، وقالوا هذا مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ ضالا فهدى} [الضحى: 7]، أي لا تنهر مستغنياً ولا مسترشداً، كقوله تعالى: {عَبَسَ وتولى أَن جَاءَهُ الأعمى} [عبس: 1- 2].
وقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً شفيقاً على الجاهل حتى يتعلم، كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد حين صاح به الصحابة فقال لهم «لا تزرموه» إلى أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم منها أحداً أبداً.
وكالآخر الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في رمضان، حتى كان من أمره أن أعطاه فرقاً من طعامه يكفّر به عن ذنبه، فقال: اعلى فقر منا يا رسول الله؟ فقال: «قم فأطعمه أهلك».
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقف للمرأة في الطريق يصغي إليها حتى يضيق من معه وهو يصبر لها ولم ينهرها، بل يجيبها على أسئلتها.
وقد حث صلى الله عليه وسلم على إكرام طلب العلم، وبين أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وأن الحيتان في البحر لتستغفر له رضى بما يصنع.
وقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث} [11]: النعمة كل ما أنعم الله به على العبد، وهي كل ما ينعم به العبد من مال وعافية وهداية ونصرة من النعومة واللين، فقيل: المراد بها المذكورات والتحدث بها شكرها عملياً من إيواء اليتيم كما آواه الله، وإعطاء السائل كما أغناه الله، وتعليم المسترشد كما علمه الله، وهذا من شكر النعمة، أي كما أنعم الله عليك، فتنعّم انت على غيرك تأسياً بفعل الله معك.
وقيل: التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية وحديث، والنعمة هنا عامة لتنكيرها وإضافتها، كما في قوله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53]، أي كل نعمة، ولكن الذي يظهر أنها في الوحي أظهر هو أولى بها، أو هو أعظمها، لقوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} [المائدة: 3]، فقال: نعمتي، وهنا نعمة ربك. ولا يبعد عندي أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما نحر مائة ناقة في حجة الوداع، لما أنزل الله عليه هذه الآية، ففعل شكراً لله على إتمام النعمة بإكمال الدين.
وقد قالوا في مناسبة هذه السورة بما قبلها: إن التي قبلها في الصديق {وَسَيجنبها الأتقى الذي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى ولسوف يرضى} [الليل: 17- 21]، وهنا في الرسول صلى الله عليه وسلم {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 3- 5]، مع الفارق الكبير في العطاء والخطاب.
والواقع أن مناسبات السور القصار، أظهر من مناسبات الآي في السورة الواحدة، كما بين هاتين السورتين والليل مع الضحى، ثم ما بين الضحى وألم نشرح، إنها تتمة النعم التي يعددها الله تعالى على رسوله.
وهكذا على ما ستأتي الإشارة إليه في محله إن شاء الله تعالى. أعلم علماً بأن بعض العلماء لم يعتبر تلك المناسبات.
ولكن ما كانت المناسبة فيه واضحة، فلا ينبغي إغفاله، وما كانت خفية لا ينبغي التكلف له. اهـ.